متحف الفن المصري الحديث
بزغت شمس سبتمبر على القاهرة حتى وصلت أوجها وملأت الساحة الاسمنتية حيث يقع منال الرحلة. تتأرجح درجة الحرارة بين منتصف ونهاية الثلاثين، وأرغمتني أشعة شمس الظهيرة على المشي مخفضة النظر حتى قادتني قدماي لعتبات المبنى، رفعت رأسي لأبصر اللافتة المنشودة "متحف الفن المصري الحديث".
لا يتشابه أي متحفان في التجربة، لكنني أيقنت قبل تشريع الأبواب أن هذه التجربة ستكون استثنائية. زرت عددًا من المتاحف الغربيّة، ولازمتني في جميعها متعة الاستكشاف، حتى أصبحت المتوقع والمرغوب من كل زيارة. لكن أمام متحف الفن الحديث، اختلف الحال. كنت أعدد الفنانين الذين آمل بمصادفة أعمالهم، وأتصور ما تتضمنه المجموعة من أعمال أشعلت بي شغف فني غير مسبوق خلال السنوات الماضية. استعددت ذهنيًا وكأني على وشك مقابلة الفنانين ذاتهم، بالرغم من استحالة ذلك. بدا لي ما خلف الأبواب أشبه بآلة زمنية، تحمل في داخلها الدليل الملموس الوحيد على حقبة فنية ذهبية في العالم العربي.
في نظري، المقصد من كل زيارة لمتحف هي رغبة بتكرار سلسلة الأحداث التالية: عندما تلحظ عمل ما وتتملكك دهشة اللقاء، يليها التوجه له باندفاع، ثم تأمل العمل ومحاولة الإمساك بما سرق انتباهك من بين كل الأعمال الأُخرى، لحظتها تتجاوز اللوحة إطارها المادي وتصبح تجربة تعاش وتحكى، وبعد انتهاء جولتك داخل المعرض، تخرج محملًا بامتنان كبير لكل تيسير سنح بهذه الفرصة؛ من رحلة السفر وفريق المتحف، إلى قدميك اللتين قادتاك إلى هنا. لا شعور يضاهي ثواني الترقب أثناء التوجه لعمل أضاء شيئًا بداخلك، وأتاح فرصة أُخرى للوقوع في الحب من أول نظرة.
استقبلتني رطوبة الجو وحرارته فور دخولي المبنى، كانت صدمتي الأولى هي خلوه من الزوار على الرغم من اكتظاظ القاهرة بالسياح! رحبوا بي بلطف موظفي مكتب الاستقبال، دونتُ معلومات الجواز على ورق دفتر مكون من مئة صفحة أو أقل، كان حاله يشي بعدد السنوات التي مرت دون استبداله لقلة عدد الزوار.
يتكوّن متحف الفن المصري الحديث من طابقان يطلان على ساحة مستديرة بالمنتصف، ومحاولة إيجاد نقطة البداية في المبنى أشبه بالبحث عن نهاية متاهة، لذلك بدأت من الجهة الأقرب.
متحف الفن المصري الحديث ( ٢٤ سبتمبر ٢٠٢٢)
تحولت الخيبة إلى حزن، على خلو المتحف من الزوار وعلى حالة الأعمال؛ أما الحزن الأكبر كان على الفنانين الذيّن قضيا عمريهما في إنتاج أعمال فنية تتناول قضايا وأشخاص، وهميين أو حقيقيين، وذكريات تخص الفرد العربي؛ لكنها الآن ليست سوى أقمشة مشدودة يعتليها الغبار وتفسدها رطوبة المبنى، وتبهت ألوانها بدون إطار.
تقبع التماثيل واللوح وحيدة بدون زوار. أعمال خُلقت في خضم الحياة، وكانت شاهدة على أحداث لن تتكرر على الوطن العربي. رُسمت من قبل فنانين دفعوا الإقصاء والترحيل ثمنًا، وصنعوا مجتمعاتهم الخاصة تكريسًا لما آمنوا به. ما بدأ كمحاولة للتخاطب أصبح الآن محادثة من طرف واحد. الفقر، الحب، البطالة، الثورة، السلام، العمل، الرقص. لم تخلُ أي مجموعة في المتحف من مسألة شغلت الشعوب العربية في وقت ما، وربما، حتى الآن.
خلال تجولي بالطابق الثاني استوقفني تمثال خشبي ببطاقة على وشك السقوط بعنوان "انتظار" لعبد المجيد الفقي، يحتضن فيها رجل وامرأة بعضهما بحميمية يتخللها اليأس، ولعل عنوان العمل كان نبوءة. مع مضي السنوات تسلل الغبار إلى كافة انعطافات التمثال وفقد الخشب لمعانه، بدأت أجزاء منه بالتهشم، ولا زالت أيادي المتحابين متشبثة ببعضها محاولةً إنقاذ ما تبقى.