اللقاء الأول: نظرتك، ثم نظرة الفنان

في إحدى أمسيات يناير، بدأت قصة حديث 

أعلننا عن لقاء حديث الأول بعنوان  

والتقينا بكل من لبى دعوتنا للحديث

عندما نقف أمام عمل فني للمرة الأولى، يتشكل بداخلنا تأويل للمعنى وراء الخطوط والألوان. ثم تتنحى انطباعاتنا جانبًا لكي ننصت لرؤية الفنان. لكن! في لقاء حديث الأول، تسيّرنا تأويلاتنا الشخصية عن الأعمال الفنية، ونسأل «ما هو انطباعك عن اللوحة؟» قبل أن نسأل عن غاية الفنان. ليس بهدف استقصاء الجواب الصحيح، بل لخلق علاقة بين الفنان والمتلقي يحمل فيها كلا الطرفين الأهمية ذاتها.

يتميّز الفن العربي الحديث بظواهر كثيرة، أكثرها حضورًا هو شعبويته. الكثير مما رُسم ونُحت كان في نصرة الشعب وتعبيرًا عن الهوية العربية، اهتم الفنانين بتصوير كل فرحة وقلق سيطرا على الفرد العربي آنذاك

لماذا بدأ التجريد في العالم العربي؟ ولماذا اخترناه موضوعًا للقائنا الأول؟

في أربعينات القرن الماضي، شهد العالم العربي موجة من التعبير التجريدي، حيث ساهم العديد من الفنانين بتوسيع نطاق التجريد إلى أقصاه. متسلحين في تعبيرهم بالأشكال والألوان والحروف، أو بإحدى هذه العناصر فقط! لإكمال عمل فني يعبر عن ذكرى شخصية أو قضية سياسية أو إنصاتًا فقط لما يمليه الحس الفني. الرواية الأشهر لظهور التجريد في الفن العربي هو تحريم التصوير في الدين الإسلامي، ويظهر التجريد في هذا السياق كردة فعل. لكن بالرغم من أصول نشأته، يستحيل على من يعاين الأعمال العربية التجريدية أن يستشعر أية تقييد في التعبير.

ضياء عزاوي

بدأ نقاشنا بعمل "سماء حمراء وطيور" (١٩٨١) للفنان ضياء العزاوي، لما تحمل اللوحة من معانٍ يمكن للمشاهد استدلالها من خلال بلاغة التعبير البصري لدى الفنان العراقي. تسكن الطيور الكثير من أعمال عزاوي التي أُنتجت في هذه الحقبة، وقد ترمز لما شهده الفنان من تكبيل للحريات آنذاك. يوظف عزاوي كل عناصر اللوحة المعهودة، وينسج فيها الحرف العربي كعنصر جمالي مختبرًا مرونته وقابليته للتشكيل.

ضياء عزاوي، سماء حمراء وطيور (١٩٨١)

إيتيل عدنان

عند حديثنا عن الفنانة اللبنانية عقدنا تجربة مع الحضور، حيث استعرضنا عليهم بضعة أعمال لإيتيل عدنان وسألناهم عن انطباعاتهم حيال رسمها الابتدائي وألوانها، تبعنا العرض بقراءة مقطع من مقالها المنشور في مجلة بدايات اللبنانية تحت عنوان "الثمن الذي لا نريد أن ندفعه للحب" ثم استكملنا استعراض بقية أعمالها. قراءة كلمات إيتيل عن نشأتها بين "بحر وجبل" وعلاقة حبها الأولى مع الطبيعة ساند في الإمساك والتحليل والنطق بما تتركه الفنانة من فتنة على المشاهد ونجحت غايتنا في دراسة أثر كلمات الفنان على قراءة لوحته، حيث شد أسلوبها الفني الحضور أكثر.

بساطة التعبير الفني لدى إيتيل هي هبة آسرة، وبالرغم من البراعة الكامنة في موازنتها لتبسيط الأشكال الفنية بطريقة تحافظ على ملامحها المعهودة، يُنعت أحيانًا الفن التجريدي المشابه بالسطحية أو البساطة الفائضة عن اللزوم. لكن أعمال إيتيل تقطع الشك حيال جدوى هذا الأسلوب الفني من خلال مقدرتها على أن تلمس كل من يتقاطع مع أعمالها ويبصر براءة هيئاتها وتنسيقاتها اللونية الباعثة ببهجة دافئة. ينم تعبيرها الفني عن عملية تأمُل تسبق الرسم وتمتد إليه.

إبراهيم الصلحي

أبرز ما تناولناه عن إبراهيم الصلحي كان صقل تقلبات حياته لتعبيره الفني. عاد الفنان السوداني من دراسة الفنون التشكيلية لدى مدرسة سليد للفنون في ١٩٥٧م وافتتح معرضه الأول في خرطوم. عرض الفنان مجموعة من أعمال البورتريه والطبيعة الصامتة التي عمل عليها خلال دراسته، لكن لم يلاقي الفنان أي ردة فعل تُذكر من الحضور. وقف وحيدًا في المعرض اليوم التالي متسائلًا عن سبب قلة الاهتمام بأعماله وعدم تجاوب المجتمع السوداني معها. دفعته الحادثة لتجربة أساليب فنية جديدة على مدى سنتين، حتى بدأ باستخدام الحرف العربي في أعماله، وعندها بدأ من في محيطه بإعادة النظر. أجرى تجارب كثيرة حتى وصل لأسلوب تجريدي في التعامل مع الحرف، يذكر الفنان أن الحروف خلقت طرق جديدة لتشكيل هيئات الانسان والحيوان والنبات في أعماله. توّلدت من خضم هذه التجربة حكمة لدى إبراهيم الصلحي تنص على "الايمان بضرورة مخاطبة هذه الفئات الثلاث عند إنتاج عمل فني؛ أولًا الذات، فلا عمل يُخلق إلا برضاها. ثانيًا محيطك الذي تنتمي إليه، عائلتك أو الحيّ الذي تسكنه. ثالثًا البشر جميعًا، أينما كانوا."

مديحة عمر

تُعنى مديحة عمر بمؤسسة "الحروفية" وهي حركة فنية لم تقتصر على جيل أو بقعة واحدة من العالم العربي، بل شملت أجيالًا وبلدانًا متعددة. ما يميّز تجربة الفنانة العراقية هو استيلاء الحرف على اللوحة، ليصبح بطل أعمالها الرئيسي وأكثر من مجرد عنصر داخلها، بل هو اللوحة بأكملها حيث لا يبدأ ولا ينتهي عند نقطة معينة. استمرت مديحة بالتعبير من خلال الحرف طوال مسيرتها الفنية، فلم تحتاج لعنصر غيره. رأت في الحرف ما لم يراه غيرها، حيث اختصت كل حرف بشخصية، معتقدة مثلًا أن لاستدارة بطن اللام طابع موسيقي وأن لحرف الياء شخصية استعلائية! ويظهر عمق ايمانها بهذه المعاني في طريقة توظيفها لكل جزء يكوّن الحرف ضمن اللوحة.

عمر النجدي

كان التباين بين تعبير عمر النجدي ومديحة عمر محط اهتمام في لقاءنا. حيث يعتمد الفنان المصري على أساليب فنية أُخرى تعزز من هيئة الحرف الأصلية عوضًا عن إعادة تشكيله بنحو جديد. تستكشف أعمال عمر النجدي التكرار كأداة بناء، حيث يستخدم حرف الألف لبناء صورة الكعبة بتركيبات عدة. كما يتحايل مستخدمًا التشابه بين هيئة حرف الألف والرقم واحد لتقديم عمل يزدهر بالتأويل الشخصي.

محمد المليحي

كرس محمد المليحي حياته الفنية للتعبير باستخدام الخطوط والألوان فقط. حيث يشتهر الفنان المغربي برسم التموجات في أكثر من ١٠٠ تأليف مختلف وحيوي. تستدعي أعمال المليحي السؤال عما الذي دفع الفنان لتكريس فرشاته للأمواج؟ وما الذي يقصه كل تصوير جديد لها؟ قد يساعدنا في التوصل لجواب أن الفنان ولد في مدينة أصيلة الساحلية، وربما ترسخت أمواج المحيط الأطلسي في ذاكرته منذ الطفولة حتى أصبح هو بذاته امتدادًا للأمواج. يستحضر المليحي أهمية هويته المغربية ودور الشعب في أعماله، ويعكس ذلك في اختياره للمواد الفنية حيث رفض استخدام قماش الكانفس وألوان الاكرليك واستبدلها بقطع الخشب وأصباغ السيارات تضامنًا مع الطبقة العاملة.

أثرى الحضور النقاشات التي دارت حيال الأعمال الفنية والقصص خلفها ودور المتلقي في كل ذلك. نشكر كل من حضر ونتطلع للقائهم مجددًا، كما نترقب التعرف على المزيد من المهتمين بالفن العربي الحديث.

نلقاكم في حديث آخر.

هديل الخصيفي

هديل هي مؤسسة مجتمع حديث ومصممة جرافيك ووسائط متعددة